استخدام المضامين الإعلامية عبر الوسائط الجديدة ...
إبداع أو تكديس حضاري؟
د/ أ. عميرات
تمهيـــد
أدى التطوّر المتسارع في تكنولوجيا الإعلام والاتصال إلى إنتاج وسائل عديدة
للتواصل الاجتماعي، عملت على تغيير أنماط حياة أفراد المجتمع وعلاقاتهم الاجتماعية
وطرق تفاعلاتهم. وتأتي الإنترنت في مقدّمة
هذه الوسائل، فقد عملت أكثر من أيّ وسيلة أخرى على إحداث تغييرات مسّت حياة الناس
بكافة مجالاتها، سواء الاجتماعية أو النفسية أو التربوية أو الاقتصادية وحتى
السياسية، بل عملت على تغيير واضح وجليّ في طبيعة الاتصالات التي تعوّد عليها
المجتمع وأنساق ثقافته السائدة. فقد أوجدت الإنترنت، بحكم تركيبتها الفريدة وطريقة
عملها المتميّزة، ثقافة من نوع خاص تختلف عن المفهوم التقليدي للثقافة، إنها ثقافة
تتألف من مجموعة غير متجانسة من القيم والآراء والتصوّرات والمعلومات تعمل على
إنتاجها شبكة اتصالات عالمية عملاقة تتكوّن من آلاف الشبكات من مختلف شبكات
الحاسوب في العالم لتقوم بتقديمها لملايين من الأفراد في شتى بقاع العالم، ممّا
جعل من الثقافة الجديدة التي أدخلتها الإنترنت عبر مواقع التواصل الاجتماعي ثقافة
تحمل خصائص فريدة اصطُلح على تسميتها بثقافة الإنترنت، نظرا إلى ما أحدثته من
تأثيرات ثقافية واجتماعية واتصالية على حد سواء، وهو ما جعل المجتمعات، في ظل هذه التغييرات، تعيش اليوم زمن التحدّي
الكبير للإنسان، بحكم سرعة الأحداث والتطوّرات التقنية و التشكّل الاجتماعي الجديد
الذي بات مفروضا على سائر البنى الاجتماعية، فقد أصبح الارتباط جليا بين النظام
الاجتماعي وأنساقه المختلفة وبين ما تقدّمه مواقع التواصل الاجتماعي أو الإعلام بالوسائط الجديدة من تغيّرات وتطوّرات ومشكلات
اجتماعية في ظلّ هذا الإعلام الجديد الذي
كرّس العلاقة بين التقني والاجتماعي، وأبرز مختلف التفاعلات بين الأفراد والجماعات
المستخدمة لهذه المواقع، ممّا أدى إلى ضرورة دراسة هذه التقنيات في المجتمعات
الإنسانية وتوضيح أهمّ خصائص هذا النظام
التقني ومقوّماته ومميّزاته بإيجابياته وسلبياته.
فما هي
مختلف التحوّلات التي طرأت على علاقة الأفراد بهذه الوسائل، وهل يملك المستخدم كفاءة الإبداع الثقافي والحضاري في ظلّ الوسائط الجديدة؟
تعريف الظاهرة المستحدثة... مجتمع الوسائط الجديدة
والعلاقات الاجتماعية
لقد
أنتجت الإنترنت ظاهرة اجتماعية جديدة تتمثل في مجتمع الانترنت، إذ يعتبر مجتمعا إنسانيا
جديدا يتكوّن من الإنسان والآلة، يحقّق الشروط الاجتماعية ويضيف خصائص أخرى إلى المجتمع
الإنساني، في خضمّ فضاء رقمي يتميّز بصفات حضارية ومعرفية جديدة، كونه وسيطا
اتصاليا وأداة للاتصال بالآخرين، هدفه التواصل وتحسين العلاقات الاجتماعية، حيث تنشأ
من خلاله علاقات اجتماعية جديدة تتخطّى حدود الزمان والمكان، وتسمح بتحقيق
التفاعل والتواصل الاجتماعي عبر خلق فضاءات اتصالية افتراضية لم تكن موجودة
من قبل، كالفايسبوك الذي سمّي بهذا الاسم على غرار ما كان يسمّى "بكتب الوجوه" التي كانت تُطبع وتوزّع على الطلاب بهدف إتاحة
الفرصة لهم للتعرّف والتواصل مع بعضهم، خاصة بعد التخرّج، فكان الهدف تأسيس موقع إلكتروني
يقوم بعمل "كتب الوجوه" بطريقة أسهل وأوسع انتشارا وأكثر فعالية، وأصبح
بذلك الفيسبوك من أهمّ وأشهر مواقع التواصل الاجتماعي، يتيح لكلّ عضو الوقوف على آخر
أخبار أصدقائه فيشكّل المتواصلون على هذا
الموقع مجتمعا افتراضيا أكثر سهولة من حال المتواصلين في المجتمعات الحقيقية. ولكن
بعد انتشار هذا الموقع ظهرت سلبيات ومحاذير، مثل إضعاف العلاقات والمهارات الاجتماعية، انتهاك خصوصية
المشتركين، بالإضافة إلى استغلال هذا الموقع من قبل جهات كثيرة قد تكون معادية،
وهو ما يسمّى في عصر المعلوماتية "بالعدوّ الخفي" .
أما
الانستغرام فكغيره من مواقع التواصل، موقع مجاني مشهور بتبادل
الصور ومشاركتها إلى جانب الفيديوهات وارسال الرسائل، أطلق هذا الموقع المشهور
بالصور في أكتوبر عام 2010، على يد مؤسسه كيفن سيستروم ومايك كريجر، أتاح للمستخدميه التقاط الصور وإضافة فلتر رقمي إليها،
ومن ثم مشاركتها في مجموعة متنوعة من خدمات مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك
وتويتر، وقد استحوذ موقع الفايسبوك على موقع الانستغرام في2012 مقابل مليار دولار،
وكان عدد موظفي انستغرام أنذاك 13 موظفا فقط، ليصبح الانستغرام نتيجة لذلك من بين أفضل
وأسهل التطبيقات التشاركية للمحتوى الحديث.
وكذلك البريد الإلكتروني أو الإيميل الذي
يعدّ أسلوبًا لتبادل الرسائل، إرسالا واستقبالا عبر نظم الاتصالات الإلكترونية
وشبكة الإنترنت، ذلك أنه يسمح بسرعة الإرسال وسهولة فتح البريد وبتكلفة منعدمة، مع
عدم اشتراط التزامن في الإرسال والاستقبال، غير أنه يعاني الكثير من السلبيات أهمّها
أنّ الخصوصية في البريد الإلكتروني ساهمت في زيادة العزلة بين الأفراد مع خطورة
التعرّض للفيروسات، إلى جانب احتمال تعرّض مالك البريد الإلكتروني لعملية احتيال إلكترونية.
أما التويتر، فهو كموقع من مواقع الشبكات
الاجتماعية يقدّم خدمة تدوين مصغّر يسمح بعدد محدود من المداخلات بحدّ أقصى مائة وأربعين
حرفا فقط للرسالة الواحدة، ويمكن إرسالها مباشرة على شكل رسائل نصّية مختصرة عن
طريق الهاتف النقّال، فهو موقع يسمح بنشر الخبر أو الفكرة بسرعة وسهولة وتركيز على
طريقة خير الكلام ما قلّ ودل، مع السرعة في نشر الخبر على الإنترنت، إلا أنّ
الموقع لا يسمح إلا بمساحة محدودة من التحديثات ولا يتيح مجالا واسعا للعلاقات بين
المشتركين كما يفعله الفيسبوك، كما قد تتسبّب سرعته وسهولة نشر الخبر عن طريق تويتر بالإدمان عليه لمتابعة
أخبار الغير والتي قد لا تفيد متابعها أو لا تعنيه .
كما تجدر الإشارة إلى الظاهرة الثقافية العالمية
الاتصالية اليوتيوب الذي يعتمد على عرض مقاطع الفيديو المطلوبة التي تمّ
التقاطها من قبل هواة ومحترفين، سواء كانت
أفلاما أو قطعا موسيقية، وقد انتشر هذا الموقع انتشارا مذهلا في سائر بقاع العالم
بسبب ميزة قصر مدة الفيديو، حيث السرعة سمة العصر. وأهمّ ما أتاحه الموقع، إمكانية
توثيق الأحداث بتفاصيلها وإعادة المشاهدة لمرّات عديدة، مع سهولة الاستعمال
والمشاهدة وبشكل عام ومجاني، مع إمكانية الترجمة. إلا أنّ الموقع يعاني من إمكانية
اختراقه وبثّ ما يتعارض مع أهداف تأسيسه. كما قامت بعض الدول بحجب الموقع بسبب
تعارضه مع سياساتها، كما حدث في أرمينيا في 2008 وإيران في 2009...
وهناك
أيضا البرنامج التجاري سكايب الذي يمكّن مستخدميه من الاتصال صوتيا عبر الإنترنت
بشكل مجاني بالنسبة إلى مستخدمي هذا البرنامج، ممّا سهّل مهمّة نقل الأخبار وإجراء
المقابلات التلفزيونية مع مختلف المراسلين، وكذا تسهيل مهمّة المؤسسات التعليمية
للتدريس والمحاضرات وغيرها من المجالات. إلاّ أنّ الموقع به ثغرات، مثل إمكانية
تعرّضه للاختراق وتشفير ملفات صاحب الحساب، إلى جانب قيام بعض الحكومات بحظر
استخدام هذا البرنامج بحجّة مخالفته للقوانين أو احتوائه على ما يعارضها.
بالإضافة
إلى موقع ماي سبيس الذي يقدّم خدمات الشبكات الاجتماعية ويتيح التفاعل بين
الأصدقاء وتقديم خدمات تفاعلية، كالمدوّنات ونشر الصور والموسيقى وأفلام الفيديو،
إلا أنّ شعبيته تراجعت بعد ظهور الفيسبوك.
نجد
كذلك موقع فليكر كموقع لمشاركة الصور وحفظها وتنظيمها، وهو موجّه خاصة إلى هواة
التصوير على الإنترنت بخدمة التشارك في الصور وتخصيص مساحة للتعليق، فهو موقع يتيح
الفرصة للتعرّف على المصوّرين والتواصل معهم والاستفادة من خبراتهم، وينبغي
للمشارك في هذا الموقع أن يحتفظ بنسخ من كافة الصور التي يقوم برفعها عليه، حيث
يمكن للقائمين على هذا الموقع حذف كافة ما يحويه حساب أيّ شخص من صور على الموقع،
سواء عن طريق الخطأ أو بشكل مقصود بسبب مخالفة المشترك لتعاليم الموقع.
هناك
أيضا موقع لينكدان
وهو
متخصّص في قطاع الأعمال والشركات، يقوم بتسهيل عملية الحصول على الموظفين المرشحين
للعمل، بعرض السّيَر الذاتية المفصّلة، وإجراء البحث عن المرشحين عبر كلمات مفتاحية،
لكنه يعاني ممّا تعانيه بعض المواقع الأخرى من إمكانية اختراق حساب مستخدميه .
أما
المدوّنات فهي إحدى تطبيقات الإنترنت وأسرعها نموّا على الشبكة. تتألف من
مقالات دورية ترتّب ترتيبا زمنيا معكوسا، وقد أصبحت مادة جديدة للإعلام، بما
أتاحته من حرّية للناشرين في التعبير عن آرائهم، سواء كانت مدوّنات فيديو أو صورا
أو معلومات أو مدوّنات شخصية، وهي على اختلاف أنواعها توفّر الحرّية والصراحة في
تناول الموضوعات، وهي مصدر لتنمية العلم
والمعرفة وتعميقها مع سهولة إنشائها وإدارتها،إلا أنّ لهذه المدوّنات معوقات قد
تحدّ من مهامّها، كاعتقال بعض الحكومات لبعض المدوّنين، وحظر نشر مدوّناتهم نظرا إلى
ما قد تقوم به هذه المدوّنات من حرب على الفساد وكبت للحرّيات، إلى جانب افتقاد
الكثير من المدوّنين إلى التخصّص والقدرة على التحليل السليم للموضوعات المتطرّق
إليها، وهوما قد يضلّل قرّاء المدوّنات، خاصة وأنّ إنشاءها والكتابة فيها أصبحا في
متناول معظم الناس، فضلا عن قدرة كاتب المدوّنة على إخفاء هويته الحقيقيّة ممّا
يطرح تساؤلات بشأن نواياه.
أمّا
الهاتف النقّال، فبالإضافة إلى كونه أداة اتصال صوتي أو مقروء عن طريق
الرسائل، فإنه صار يمكن استخدامه كجهاز حاسوب محمول باليد، يستطيع
حامله معرفة آخر الأخبار السياسية والاقتصادية والرياضية فور حدوثها عن
طريق الاشتراك في خدمة الإنترنت ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي أو الربط مع
القنوات الفضائية. كما يمكن استخدام هذا الهاتف كوسيلة إعلان يتيح النشر والاطلاع
على الإعلانات المختلفة.فالهاتف النقّال كأداة اتصال وتفاعل، يمكن استخدامه لغايات
مختلفة مع صغر حجمه وسهولة حمله، مثل المشاركة في المدوّنات والإدلاء بالآراء والبرامج على مواقع الاتصال الاجتماعي،
ومشاهدة البرامج على الفضائيات حسب الطلب ومتابعة الأخبار المختلفة، والمشاركة في
تغطية الأحداث بالصوت والصورة.غير انه يجب ترشيد استعمال هذه الوسيلة الاتصالية
لتجنّب ما يمكن تجنّبه من سلبيات، مثل انتهاك خصوصيات الناس واستخدامه للجوسسة
ولأغراض دنيئة، ناهيك عن مختلف الأمراض التي يمكن أن يتسبّب فيها في حالة
الاستعمال المفرط له.
طبيعة
الحوار الجديد على الشبكة المعلوماتية
مهما
تعدّدت هذه المواقع الإلكترونية، فإنّ الإنترنت قد ساهمت في انتشارها وتوسّعها،
واشتركت كلّها في العديد من الخصائص التي زادت في كثرة وسهولة علاقات التواصل من
خلال الافتراضية، حيث خلقت كلّ مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها
فضاءات اتصالية افتراضية جعلت هذه المواقع تنقل المعلومات وتوصلها إلى المستقبلين
بسرعة فائقة، متجاوزة بذلك الفضاءات الجغرافية والزمنية أو ما يسمّى بظاهرة التخطّي
المعلوماتي، وذلك على غرار ما تسديه خدمات البريد الإلكتروني والمدوّنات الإلكترونية
والدردشة و التعاليق الإلكترونية ...
و
كرّست هذه المواقع أيضا خاصية التفاعلية، إذ يستطيع الأفراد إرسال وتلقّي الرسائل
بتفاعلية وتبادلية، على نحو يسمح بإمكانية استقبال التغذية العكسية من لدن المستقبلين للرسائل، عن طريق التعليقات المتاحة
عبر هذه المواقع، ممّا يجعل المستقبِل أو متلقّي الرسالة الإلكترونية يتحوّل إلى
مواطن صحفي، أو ما يطلق عليه صحافة المواطن. فقد أتاحت هذه المواقع الإلكترونية
للكثير من المواطنين أن يلعبوا دور المراسل الإعلامي الذي ينقل الخبر من قلب الحدث،
ويصبح بذلك مصدر المعلومة وصاحبها، فيصنع الخبر وينشره ويعلّق عليه ويتفاعل معه عن
طريق رجع الصدى، وهو ما كان معدوما في الإعلام التقليدي، حتى سمّي الإعلام بالوسائط
الجديدة "بإعلام المواطن" حيث اعتبره البعض مصدر الأخبار، واعتبره آخرون وسيطا ينقل الخبر وينشره، وفي كلتا
الحالتين، لعب المواطن في الإعلام الجديد دورا كان مفقودا في الإعلام التقليدي.
بالإضافة
إلى الآنية أو الظرفية أو التزامنية، والتي يُقصد بها التزامن أثناء الولوج
إلى شبكة الإنترنت، أي التقاء طرفيْ الاتصال في الزمن نفسه وعلى الخط، مثل خدمات
المحادثات الإلكترونية التي توفّر تبادل النقاش في الوقت نفسه مع أكثر من شخصين في
الزمن ذاته ومهما بعدت المسافات بين أطراف الاتصال.
كما تميّزت مواقع التواصل الاجتماعي بتكريس
خاصية الفردانية أو الشخصانية أو التفتتية، إذ أنّ كلّ شخص بإمكانه خلق فضاء
اتصالي خاص به على شبكة الإنترنت، فتحوّل الاتصال الجماهيري الذي يوجّه رسائله إلى
جمهور التلفزيون أو الإذاعة أو الصحف إلى اتصال فرداني تفتيتي، فتّت الاتصال
بتقديمه لرسائل تلائم أفرادا وجماعات صغيرة
ومتخصّصة، فيخاطب المرسل في هذه المواقع الميول والحاجات الفردية، وبذلك
تكرّست الفردانية عبر هذه المواقع، ممّا انعكس سلبا على الجوانب النفسية
والاجتماعية لأفراد مجتمع الإعلام بالوسائط الجديدة .
إنّ
تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي تتجلّى في شتى مجالات الحياة الاجتماعية، فهي تظهر
من خلال تغيير سلوكيات واتجاهات الأفراد في المجتمع، إيجابا أو سلبا، تؤثر في كلتا الحالتين على حياة الفرد والأسرة
والمجتمع عموما. ومن أهمّ التأثيرات الإيجابية لمواقع التواصل الاجتماعي أنها تكرّس
القيم، لأنّ وسائل الاتصال، كما أثبته الدراسات الميدانية، لا تغيّر آراء
الناس ومواقفهم بقدر ما تدعمها، لأنّ العلاقات الاجتماعية هي أساس تكوين هذه
الآراء والمواقف، والإعلام يبني على ذلك ويكرّس ما أنتجته تلك العلاقات الاجتماعية
ويعزّزها.
إلى
جانب قيام مواقع التواصل الاجتماعي بدور التنشئة الاجتماعية، بما هي سبيل إلى اكتساب
قيم المجتمع وثقافته، وعلى هذا النحو، تعتبر مختلف
وسائل الاتصال الإلكترونية مؤسسات اجتماعية تقدّم مواد ثقافية مختلفة، فتكون بذلك
بمثابة الناقل الذي يساهم في إحداث الألفة مع المحيط.
وتعمل
مختلف مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية على تحقيق الانسجام وتعزيز الترابط
الاجتماعي، فهي تجعل من الفرد يحسّ بالانتماء إلى المجتمع الذي تربطه صفات مشتركة،
كالقيم والثقافة واللغة والتاريخ و الرقعة الجغرافية، لاسيما في المجتمعات التي
تتباين من حيث اللغة والمعتقد، فيبرز دور هذه الوسائل الاتصالية في مجال الترابط
الاجتماعي ودعمه. إلى جانب دور هذه المواقع في توسيع المحيط، فقد ساهمت في تحقيق
الترابط بين أفراد المجتمع داخليا والاهتمام بما يجري من أحداث خارجيا، وبذلك تعمل
هذه المواقع على توسيع المحيط الاجتماعي في المجتمعات ولو افتراضيا، حيث إنه محيط
ضيّق في الواقع.
كما
أنّ مختلف مواقع التواصل الاجتماعي تمكّن الفرد من الانتقال إلى العالم الرمزي
الخيالي، ممّا يجعله يبتعد عن ضغوطات الواقع، فيجد التعويض في هذه المنظومة
الرمزية الخيالية ويتمكّن من الهروب عبر هذه المواقع من مختلف الضغوطات ليجد بعض
الراحة ولو ظرفيا.
وعلى
العموم، تؤدي مختلف هذه المواقع الإلكترونية إلى التواصل الاجتماعي وتكريس
العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع خاصة المتباعدين منهم مكانيا، فقد كرّست
هذه المواقع الرؤية الأوضح، وهو مصطلح يشير إلى مضاعفة علاقات الفرد بغيره، وكذلك إتاحة
التحدّث بكلّ حرية والتعبير عن مختلف الآراء بصراحة، والخوض في مواضيع يتعذّر
الحديث عنها عبر الاتصال الشخصي، حيث إنّ إخفاء الهوية ييسّر ذلك. وتساعد هذه
المواقع الأفراد الذين يعانون من الخجل والانطواء، على تجاوز حدود حياتهم
الاجتماعية الضيّقة وتوطيد علاقاتهم مع أفراد المجتمع المحيط بهم والتعرّف على أفراد
آخرين. كما أنّ خاصية التفاعلية التي تتميّز بها هذه المواقع الإلكترونية قد نتج
عنها ما يُطلق عليه "الاتصال الفائق"، بحيث تعدّ هذه المواقع كوسيط
اتصالي فائقة الحدود في العلاقات الشخصية بين الأفراد، ما يمكّنها من توفير اتصال
تزامني يحدث في نفس زمن الاتصال، مع رجع صدى قويّ وفعّال وتصّور كمالي للمتلقّي
وتقييم تفاؤلي للذات بحكم غياب التواجد المادي.
إنّ
الواقع اليوم يؤكّد كثرة استعمال هذه المواقع الإلكترونية الرقمية، إذ أدى هذا
الاستخدام الفائق إلى نشأة روابط اجتماعية جديدة و إقامة علاقات شخصية بين الأفراد
وتحقيق إشباعات لا تتحقق باستخدام وسائل أخرى، فالإنسان اجتماعيّ بطبعه يسعى دوما إلى
الاتصال والتفاعل مع محيطه الاجتماعي، وهي سمة عصر تكنولوجيا الإعلام والاتصال
التي سمحت بإقامة شبكة كثيفة من العلاقات من مختلف أنحاء العالم، والتي منها ما يبدأ
افتراضي وينتهي باللقاء وجها لوجه، وقد تتحوّل العلاقة الافتراضية إلى علاقة شخصية
مباشرة أو تبقى افتراضية مع أشخاص لن يلتقوا أبدا.
تظهر
الجوانب السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام في ابتعادها عن القيمة، وذلك
من خلال تحييد القيم وإبعادها كعوامل مؤثّرة، بتغييبها في المحتويات
الاتصالية، خاصة الترفيهية منها، فلا تتقيّد بنظام من القيم، بل تركّز على مايريده
الجمهور وما يطلبه، ممّا أدى إلى انتشار محتويات العنف والجنس وغيرهما من المواد الإعلامية
التجارية التي يرغب فيها الجمهور ويفضّلها.
كما
أنّ مواقع التواصل الاجتماعي، وبطريقة غير مقصودة، تعمل على تضييق المحيط، ما
يجعلها تلعب دورا سلبيا في المجتمعات ذات العادات والتقاليد الغنية بالتالي غنى التفاعل
الاجتماعي كذلك، بحيث تُبعدهم عن بعضهم فتجعل المجتمعات متشابهة تتميّز بقلّة
الروابط الثقافية والعزلة الاجتماعية.
وهي
تعمل أيضا على توسيع "العالمي" على حساب "المحلّي"، فتتجه كلّها
نحو العولمة أو ما يسمّى بالقرية العالمية، على نحو يكون الاهتمام بما يجري خارجيا
من ثقافات وافدة على حساب الواقع المحلّي، بحيث تكرّست بفعل ذلك السلوكيات
المنحرفة والابتعاد عن القضايا المحلية المرتبطة بالواقع، وكذا تقلّص الزمن
الاجتماعي المخصّص للعلاقات الاجتماعية.
وتؤدي
مواقع التواصل الاجتماعي إلى إضعاف الاتصال الاجتماعي، من خلال العمل على تقليص
الزمن الاجتماعي وممارسة التفكيك الاجتماعي، على اعتبار أنّ الزمن الذي يقضيه
الفرد مع هذه الوسائل يكون على حساب التفاعل الاجتماعي المباشر. ومع مرور الوقت
يألف الفرد هذا النمط من التواصل فيصبح انعزاليا ويبتعد عن المسؤولية الاجتماعية
تجاه الآخرين، ممّا لا يعطي مجالا لأيّ نوع من الاتصال الشخصي، وهوما يقودنا إلى
نتيجة سلبية أخرى هي الإدمان على الوسيلة، حيث إنّ شدّة الارتباط بالوسيلة الإعلامية
الاتصالية تكون على حساب المسؤوليات الاجتماعية الأخرى، و يترتب على هذا الإدمان،
قلّة التفاعل الاجتماعي المباشر وضعف الروابط الاجتماعية.
كلّ ذلك يفضي إلى تفكّك العلاقات الأسرية
والاجتماعية، فاستخدام مختلف مواقع التواصل الاجتماعي يتسبّب في قلّة الوقت الذي
يقضيه الفرد مع أفراد أسرته وأصدقائه، وأنّ الوقت الذي يقضيه مع هذه المواقع يكون
على حساب أوقات مخصّصة للعلاقات الاجتماعية الواقعية.
بالإضافة إلى الانعزالية وفقدان الهوية، فإنّ
استخدام هذه المواقع يؤدي بصاحبها إلى
زيادة الإحساس بالعزلة والوحدة و يبعده عن أسرته وأصدقائه، إلى درجة أنه لا يشعر
بالوقت الذي يقضيه في استخدام هذه المواقع، بل لا يعتبره وقتا ضائعا. كما أنّ الاعتماد
على الأجهزة الإلكترونية في إنجاز المهام ينعكس سلبا على منظومة القيم الاجتماعية،
مثل قيمة العمل. وكذا تدعيم النزعة الاستهلاكية الفردية.
الفيسبوك
والجانب الإعلامي
توجد عبارة جاهزة أكثر انطباقا على الفيسبوك في
جانبه الإعلامي، إذا سلّمنا جدلا بأنه
يتوفر فعلا على هذا الجانب في أدنى تعريفاته ووظائفه، أي نشر المعلومة وإيصالها إلى
شريحة واسعة من المتلقّين.. ليس هناك عبارة أفضل من سلاح ذي حدّين ، فكما أنّ مالئ الدنيا وشاغل
الناس الجديد يستطيع أن يكون أداة مثلى
للقفز على حواجز الإعلام الحكومي المتخشّب، ومن بينه الإعلام العربي، فإنه يستطيع
أن يكون مرتعا خصبا للإشاعة والمعلومة المضلّلة، ومن ثمّ بثّ الوعي الموهوم. بل
أكثر من ذلك لا شيء يمنع الحكومات، التي يُطرد إعلامها من الباب، أن تعود من نافذة الفيسبوك لتروّج لسياساتها بطرق شتى وغير
مباشرة. وعن الفيسبوك بما هو إعلام بديل، يروّج كمّا كبيرا من الطروحات المتناقضة،
بين َمنْ يراه خير من يستطيع القيام بدور هذا الإعلام المنشود، وبين مَنْ ينفي عنه
كلّ إمكانية للقيام بذلك الدور. كما أنه لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الذي لعبته
الشبكات الاجتماعية في انتخابات الولايات المتحدة، وكذلك في حرب غزّة، ولكن الأمر
بدا بارزا جدا في الأحداث الأخيرة لما يُعرف بالربيع العربي والتي أثارت مسألة دور الشبكات الاجتماعية في نقل الحدث وتوصيفه،
وغدا يتساءل عن دور هذه الشبكات في تغيير الأنظمة وتحديد شكل العالم الجديد.
وفي وقت تحوّلت فيه مواقع الشبكات الاجتماعية إلى
مصدر أساسي للمعلومات ولأشرطة الفيديو وشهادات الناس، لجأ المواطن الإعلامي إلى تصوير الأحداث على هاتفه الجوّال أو كاميراته،
ومن ثمّ وضع أشرطة الفيديو على الشبكات الاجتماعية، حتى باتت مؤسسات إعلامية كبرى
مثل الـ سي.أن.أن والـ بي.بي.سي. نيوز تأخذ قدرا كبيرا من المعلومات الموجودة على التويتر
وعددا من الأشرطة المحمّلة على اليوتيوب.
إنّ معالم تحوّل الفيسبوك إلى إعلام بديل تبدو
واضحة، ويكاد الأمر يكون محلّ إجماع الباحثين.
وكخلاصة، فإنّ الفيسبوك، بكلّ ماله وما عليه،
يبقى مؤهّلا لأن يكون بديلا عن الإعلام التقليدي بكلّ ما له وما عليه أيضا، قد
يلغي بعض مساوئه، مثل سيطرة الدول والحكومات عليه، ولكنه قد يعوّضها بأخرى، مثل
غياب المسؤولية وقلّة موثوقية الخبر.
إنّ التصاعد
السريع في استخدام الانترنت كرس عصر الإعلام بالوسائط الجديدة، والذي يخلق مجالا
عاما ومضادا للأفكار التي يسوّقها الإعلام السائد. وكنتيجة لكلّ ذلك، يطرح
الفيسبوك على الحكومات العربية تحدّيا كبيرا وغير مسبوق، وهو تحدّي تطوير إعلامها
وتخليصه من اللغة المتخشّبة، وإكسابه المزيد من المصداقية، وتجريده من الدعاية، لأنها بتوفّر بدائل مثل الفيسبوك،
لن تجد نفسها معزولة إعلاميا فحسب، ولكنها قد تجد نفسها هدفا لهجومات قد يصدر
بعضها عن حسن نية ، كما قد يصدر بعضها الآخر عن سوء نية وعداوة لها، ورغبة في
زعزعة استقرارها وبثّ الفرقة في مجتمعاتها التي تبدي ممانعة ضعيفة للإشاعة، ولا
تملك حصانة ثقافية وحضارية قوية تتيح لها التمييز بين الصادق والمغرض. لقد مكّنت مختلف مواقع التواصل الاجتماعي بصفة
عامة الإنسان من اختراق الحدود والمسافات وتحقيق التواصل على نطاق واسع، أكثر ممّا
كان عليه من قبل، ممّا يتوجّب على مستخدميها معرفة كيفية استثمار هذه المواقع
الاجتماعية لصالحهم استثمارا أمثل، مع إدراك طرق وكيفيات التعامل مع الوسيلة بما
يفيد مستخدمها، فيبلّغ أفكاره بصورة أسرع وأوضح، ويتلقّى الرسائل المفيدة
والمناسبة بشكل أحسن وأسرع.
و
ممّا لا شك فيه، أنّ مختلف مواقع التواصل الاجتماعي قد أثّرت فعلا على مستوى الإشباعات
التي تحققها للفرد، وأتاحت له سرعة وسهولة التواصل الاجتماعي، ويمكن اعتبارها مكمّلة
لدور الاتصال الشخصي، كما تقرّه علياء سامي في دراستها حول "الإنترنت والشباب
وآليات التفاعل". ومهما يكن، فإننا لا يمكن أن نحكم على تأثيرات هذه المواقع إيجابا
أو سلبا دون الاعتماد على متغيّرات أخرى لها علاقة بشخصية الفرد المستخدم لهذه
المواقع، كمستواه التعليمي والثقافي ودوافع استخداماته وتأثيرات محيطه، كالعادات
والتقاليد والدين وغيرها من العوامل التي قد تكون محدّدة لاستخداماته لهذه المواقع
الإلكترونية التي يجب أن تؤدّي دور التكامل فيما بينها، وذلك يقع على عاتق
المستخدم لها، المستشعر لمسؤوليته الاجتماعية تجاه مجتمعه ككلّ. بهذه الكيفية، يمكن
الاستفادة من مزايا مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وتطوير الأداء واستغلال هذا
التقدّم التكنولوجي الرقمي الهائل وثورة المعلومات لمواكبة كلّ ما هو جديد ويلبّي
مطالب إنسان عصر المعلومات والاتصال الرقمي الذي صارت مواقع التواصل الاجتماعي جزءًا
لا يتجزّء من حياته، ممّا يقتضي منه تكريس التواصل الاجتماعي لا العزلة الاجتماعية،
وذلك هو تحدّي جيل هذا الاتصال الرقمي
وثورة المعلومات.
لقد أصبح المستخدم، في ظلّ هذا العالم الافتراضي،
هو المنتج للمضامين الإعلامية ويساهم في
تقييمها وتصنيفها ونشرها والتعليق عليها، بل وابتكار واجهات عرض وأدوات
جديدة للاستخدام. فالإعلام بالوسائط الجديدة التابع للمؤسسات الإخبارية طوّع مواقع اليوتيوب والفيسبوك لخدمة أهدافه ليساهم الأفراد في عملية الإنتاج الإعلامية، وهو ما يسمّى بإعلام المواطن الذي غيّر تماما
علاقة الأفراد مع الإعلام...
* فالعلاقة بين
المستخدم والإعلام علاقة تفاعلية قائمة على
إنتاج المضامين، كالإعلام والتعليق والنشر
بشتى الوسائل، فلم يعد المثقفون والساسة والصحفيون يحتكرون سلطة الكلام والتعبير
عن الذات، بل أمسى ذلك متاحا للجميع، وأنّ لهم متابعين أوفياء وأهمية توفّرها التكنولوجيا.
*اختفى مفهوم
البرايم تايم وأوقات البرامج لدى المستخدم، بل لم يعد لها معنى مع توفّر ملفات الفيديو في أرشيف اليوتيوب
وغيره.
* إعلام المواطن القائم على إنتاج مضامينه لا يملك
مهارات إعلامية، لكنه يملك المعلومات المجمّعة من محيطه و الإنترنت،
فينشر ما يشاء وقت ما يشاء، مثلما نجح العديد من المدوّنين للوصول إلى العالمية
والشهرة كمدوّني اليوتيوب الذين يعرضون الإعلانات التجارية على صفحاتهم.
*محليّة مضامين الإعلام الجديد وفوريتها دون
مراجعتها أو تدقيقها وبلغة أقرب لهذا المستخدم.
* الانتقال من مجرّد التلقّي المتمثّل في
القراءة و المشاهدة والاستماع والتأويل
الصامت، إلى استخدام المضامين الإعلامية
عبر الإعلام الجديد من خلال التعليق و التقييم والتأليف والطباعة و الإرسال
والنسخ واللصق و التصنيف، ومن المضامين المحدودة إلى المتنوّعة حيث يذهب إليها
ولا تأتي إليه.
* يصبح المستخدم له خيار وإرادة تدفعه إلى التفاعل، فقد يقوم في وقت متزامن بالاستماع
والدردشة وحفظ ملف فيديو في ذات اللحظة.
*النقاش
يكون متاحا مع المرسل ولم يعد
التأويل صامتا.
إننا نعيش مرحلة وسطية
بين الإعلام التقليدي والجديد، هذا الأخير
الذي يملك ملايين المستخدمين المتفاعلين في كلّ لحظة من أجل المعرفة والترفيه
والتثقيف.
في ظلّ انتشـار هـذه التكنـولوجيا، وممّا سبـق، فـإنّ تساؤلا جوهريا
طرحـه الأستاذ عزّي عبد الرحمان يرافق هذا السياق...
"ما هو نوع
وحجم القيم التي تنقلها هذه الوسائل إلى المستخدم؟ وهل يملك هذا المتلقّي الكفاءة القيمية حتى يكون
استخدامه محقّقا للارتقاء الثقافي
والحضاري" ؟
لقد خلصت
الدراسات الحديثة، ومن بينها ما أقرّه الدكتور عزّي أنّ الارتقاء الثقافي للإنسان
يكون عبر ثلاث مراحل، وهي نقطة فلسفية يتقاطع فيها مع فكر مالك بن نبي :
1- مرحلة اللغة التي تتيح للإنسان المعرفة
2-
مرحلة الدين التي تجعل من الإنسان متحضّرا بفعل خشية الله والتعامل مع الآخرين برفق
وإحسان ومراقبة النفس ..
3- مرحلة التكنولوجيات، حيث الإنسان لا يتحضّر في هذه المرحلة
بامتلاكه للتكنولوجيا أو ركوب السيارة أو اقتناء آخر مستحدثات الموبايل أو أيّ وسيلة من الوسائل التكنولوجية الأخرى.
المتحضّر
ليس مَنْ يستهلك التكنولوجيا، لأنّ الاستهلاك لا يؤدي إلى التحضّر
بل المتحضّر مَنْ ينتج التكنولوجيا
...المتحضّر من يفكّر ومن يبدع، فالحضارات
هي تلك التي تنتج أدواتها بنفسها، وليست
تلك التي تستوردها أو تكدّسها على حدّ
قول مالك بن نبي.





Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire